القائمة الرئيسية

الصفحات

رقابة الدولة على المؤسسات العمومية في الجزائر

 أطروحة بعنوان: رقابة الدولة على المؤسسات العمومية في الجزائر PDF

رقابة الدولة على المؤسسات العمومية في الجزائر PDF

مقدمة:
تقوم الدولة بوظائف عدیدة و متنوعة؛ وتنقسم هذه الوظائف في شقها الإداري إلى شكلین؛ یتمثل الشكل الأول، في وظیفة الضبط الإداري التي تسعى من خلاله الدولة إلى حمایة النظام العام، عن طریق فرض قیود على حریات و نشاطات الأفراد. أما الشكل الثاني ،فهو وظیفة المرفق العمومي، الذي تسعى من خلاله إلى تلبیة حاجیات الأفراد عن طریق تقدیم خدمات لهم. إن ممارسة هذه الوظائف لا یكون فعالا، إلا عن طریق تنظیم إداري محكم.

و تبعا لذلك، یعتمد التنظیم الإداري في الدولة الموحدة (البسیطة) على أسلوبین؛ یتمثل الأسلوب الأول، في أسلوب المركزیة الإداریة الذي یعني جمع الوظیفة الإداریة في ید واحدة هي السلطة الإداریة المركزیة بالعاصمة و ممثلیها التابعین لها عبر الأقالیم.
أما الأسلوب الثاني، فیتمثل في أسلوب اللامركزیة الإداریة الذي یعني توزیع الوظیفة الإداریة بین السلطة الإداریة المركزیة و هیئات إداریة إقلیمیة أو مرفقیة مستقلة نسبیا في إطار مبدأ وحدة الدولة، و ذلك تحت رقابة الدولة.

إن رقابة الدولة، أو ما یعرف كذلك، بـ "مبدأ رقابة الدولة" یعتبر من منظور القانون الإداري من أهم المبادئ التي تحكم التنظیم الإداري في الدولة، فهو یجسد العلاقة الأساسیة التي تربط بین الدولة و الهیئات الإداریة اللامركزیة، سواء تعلق الأمر بالهیئات الإداریة الإقلیمیة، المتمثلة في الجماعات الإقلیمیة للدولة ( البلدیة و الولایة)، أو تعلق الأمر بالهیئات الإداریة المرفقیة، المتمثلة في المؤسسات العمومیة.

فلا یمكن تصور أي سلطة أو هیئة إداریة بدون رقابة، یقول الفیلسوف الفرنسي
Alain1، في هذا السیاق: 2» Tout pouvoir sans contrôle rend fou « ،أي أن ترك كل سلطة دون رقابة تؤدي إلى حماقة ، فالرقابة تجعل الفكر عادلا و متوازنا.

و في هذا الإطار، تقتضي متطلبات الدراسة ضرورة تحدید مفهوم مصطلح "رقابة الدولة"» Le contrôle de L’Etat« على الهیئات الإداریة، من جانب معنى عبارة "الدولة". الذي یفید معناها مفهومین؛ یتمثل المفهوم الأول في المفهوم الواسع للدولة ،و الذي یعني الدولة بسلطاتها الثلاثة، و هي السلطة التنفیذیة، السلطة التشریعیة، السلطة القضائیة، و هنا یفید معنى "رقابة الدولة": ثلاث أنواع من الرقابة و هي الرقابة الإداریة التي تمارسها السلطة التنفیذیة و الرقابة السیاسیة التي تمارسها السلطة البرلمانیة و الرقابة القضائیة التي تمارسها السلطة القضائیة.

أما المفهوم الثاني لرقابة الدولة، فهو مفهوم تقني بحت و ضیق، یطلقه الكثیر من رجال القانون1على العلاقة الرقابیة التي تربط بین الدولة و الهیئات الإداریة. و التي تتضمن الرقابة الإداریة التي تمارسها الدولة ممثلة في السلطة الإداریة المركزیة على الهیئات اللامركزیة الإداریة، السالفة الذكر، من أجل حمایة مبدأ المشروعیة و المصلحة العامة2.

كذلك، ینبغي تحدید مفهوم اصطلاح "الرقابة الإداریة" على الهیئات الإداریة، الذي یطرح إشكالا في مسألة تحدید المفاهیم، و ذلك بسبب الاستعمالات المختلفة لاصطلاح الرقابة الإداریة، فاستعمال اصطلاح الرقابة الإداریة »Le contrôle administrative «، یختلف بین منظور علم الإدارة و علم القانون، لاسیما القانون الإداري. فالرقابة الإداریة منزاویة علم الإدارة، تعتبر وظیفة من وظائف الإدارة العامة الخمسة، و تهتم بالرقابة من الجانب الفني و الإنساني و العلمي للعمل الإداري محل الرقابة . كما تستهدف التأكد من مدى انسجام تنفیذ العمل الإداري مع الخطة الموضوعة و التعلیمات الصادرة من أجل التعرف على نقاط الضعف و الأخطاء لتصحیحها و منع تكرار حدوثها1.

أما اصطلاح "الرقابة الإداریة"2 من جانب علم القانون، لاسیما القانون الإداري، فهو یفید استعمالات أخرى ، فالرقابة الإداریة منزاویة علم القانون تهتم بالجانب القانوني ، و حمایة مبدأ المشروعیة ، وهي تختلف باختلاف الأنظمة القانونیة. إن هذه الرقابة الإداریة في القانون الإداري تعني: " الرقابة التي تصدر من الجهات الإداریة التي تكون الجهاز التنفیذي للدولة على الهیئات الإداریة المركزیة و الهیئات الإداریة اللامركزیة"3.

و التي تستهدف حمایة مبدأ المشروعیة و حمایة المصلحة العامة. فرقابة الدولة من منظور القان ون الإداري تنقسم إلى نوعین: یتمثل النوع الأول في الرقابة الرئاسیة » Le contrôle hiérarchique « ، التي تنصب على الهیئات الإداریة المركزیة و غیر الممركزة . أما النوع الثاني فیتمثل في الرقابة الوصائیة » Le contrôle de tutelle « التي تنصب على الهیئات الإداریة اللامركزیة( الجماعات الإقلیمیة و المؤسسات العمومیة).

و في هذا السیاق، تقتضي مسألة تحدید موضوع الدراسة كذلك ، تحدید اصطلاح المؤسسة العمومیة ، و ذلك بسبب الخلط في استعمال المصطلحات و الذي أصبح یشكل خطرا على أصالة المفاهیم. و في هذا الإطار، یرجع أصل مصطلح "المؤسسة العمومیة" إلى مصطلح » L’établissement public «، و هو مصطلح فرنسي، یعني: "تلك الهیئة التي تتمتع بالشخصیة المعنویة و المكلفة بتسییر نشاط مرفق عمومي في إطار احترام مبدأ التخصص".

و في نفس السیاق كذلك، لقد أثار استعمال مصطلح » L’établissement public «، جدلا في مسألة استعماله باللغة العربیة، و هو ما أدى ببعض رجال القانون و الدارسین إلى الخلط في استعماله باللغة العربیة، خصوصا في ظل تشابهه مع بعض المصطلحات الأخرى. كما أدى في بعض الأحیان إلى خلط و سوء استعمال الترجمة من اللغة الأصلیة لهذه المصطلحات إلى اللغة العربیة. و هنا لابد من التفریق بین استعمال اصطلاح » L’entreprise publique «، و استعمال اصطلاح » L’établissement public «. و تبعا لذلك، تعني الترجمة الأصلیة لاصطلاح » L’entreprise publique «، إلى اللغة العربیة اصطلاح "المقاولة العمومیة"1. و التي تعني صنف من أصناف المؤسسات المتمیزة عن الدولة، تكلف بنشاط صناعي أو تجاري یكون أغلبراس مالها مملوك لشخص عمومي یكون غالبا الدولة. نظام تسییرها مثل ما هو في القطاع الخاص؛ أي مثل شركة خاضعة للقطاع الخاص2. لذلك، وجب التفریق بین المصطلحین و عدم الوقوع في الخلط في الترجمة، خاصة أن بعض رجال القانون یستعمل عبارة "الهیئة العمومیة" للتعبیر عن اصطلاح » L’établissement public «، و عبارة L’entreprise publique «، للتعبیر عن "المؤسسة العامة" و التمیز بینها و بین المعنى الأول ، و هو ما یؤدي إلى الخلط بین المفاهیم. و هنا یجب كذلك، تحدید معنى اصطلاح "الهیئة العمومیة"، التي تعني باللغة الفرنسیة اصطلاح » L’institution publique «، و یقصد بها ؛ كل منظمة عامة تدخل في تنظیم مجتمع أو دولة معینة، و معنى اصطلاح "الهیئة العامة" هو مصطلح واسع یستعمل في عدة مجالات، السیاسیة و الإداریة و الاقتصادیة و الاجتماعیة، و غیرها.

و في هذا الصدد، جاء القانون رقم 88-01، المؤرخ في 12 ینایر 1988، المتضمنالقانوني التوجیهي للمؤسسات العمومیة الإقتصادیة1، بعدة أصناف للمؤسسات العمومیة ،و هي: المؤسسة العمومیة ذات الطابع الإداري (EPA)، و المؤسسات العمومیة ذات الطابع الصناعي و التجاري (EPIC ) ، التي تعتبر التقسیمات الكلاسیكیة الأساسیة للمؤسسة العمومیة. كما جاء هذا القانون بأصناف أخرى، و التي تتمثل في المؤسسات العمومیة ذات التسییر الخاص (EPGS)، و مراكز البحث و التنمیة (CRD) و المؤسسات العمومیة المحلیة(EPL). إضافة إلى ذلك، ظهرت أصناف أخرى جدیدة من المؤسسات، و هي: المؤسسات العمومیة ذات الطابع العلمي و التكنولوجي (EPST)، و المؤسسات العمومیة ذات الطابع العلمي والثقافي و المهني (EPSCP)، و ذلك في إطار القانون التوجیهي حول البحث العلمي و التطویر التكنولوجي2، و القانون التوجیهي للتعلیم العالي و البحث العلمي3.

إن هذه الأصناف المتنوعة الجدیدة للمؤسسة العمومیة، قد أدت ببعض الأساتذة للاعتقاد، بأنها أصناف جدیدة مستقلة أدت إلى تحولات جدیدة في الأنظمة القانونیة للمؤسسات العمومیة. إلا أن أغلب رجال القانون، یرون أن هذه التصنیفات الجدیدة لا تعدو لأن تكون سوى شكل من الأصناف الكلاسكیة المعروفة للمؤسسة العمومیة، و المتمثلة في المؤسسة العمومیة ذات الطابع الإداري (EPA)، و المؤسسات العمومیة ذات الطابع الصناعي و التجاري (EPIC ) . و یرون أن الهدف من وضع هذه الأصناف هو إرساء بعض القواعد المرنة على نظامها القانوني بما یتلاءم مع خصوصیات المرافق التي تسیرها دون أن یؤثر على طبیعة نظامها القان وني الذي یبقى داخل نطاق الأنظمة القانونیة السابقة.

و في هذا الإطار، تطرح فكرة تمییز المؤسسة العمومیة ذات الطابع الإداري (EPA)عن المؤسسات العمومیة ذات الطابع الصناعي و التجاري (EPIC ) ، ضرورة الحدیث عن المفهوم الأصلي للمؤسسة العمومیة ، الذي یرتبط بتطور وظائف الدولة، و نشأة و تطور المرافق العمومیة. حیث كانت وظیفة الدولة الحدیثة في بدایتها محصورة في الأمن و العدالة و العملة و المرافق الإداریة. أما المجال الاقتصادي فكان حكرا على الخواص، و هو ما كان یطلق علیه بـ"الدولة الحارسة". و في هذه الفترة ظهر المفهوم الأصلي للمؤسسة العمومیة الذي كان یقتصر على تسییر المرافق العمومیة الإداریة (SPA) القاعدیة كالصحة و التعلیم و غیرها. و كان في هذه الفترة، المفهوم الأصلي للمؤسسة العمومیة یمتاز بالتجانس و یتطابق مع مفهوم المؤسسة العمومیة الإداریة1.

و بعد ظهور المرافق العمومیة الصناعیة و التجاریة (SPIC)، بعد قرار محكمة التنازع الفرنسیة بتاریخ 22 جانفي 1921، في قضیة الشركة التجاریة لغرب إفریقیا2، و تحول دور الدولة من الدولة الحارسة إلى الدولة المتدخلة في المجال الإقتصادي3. أدى ذلك لظهور فئة جدیدة إلى جانب فئة المؤسسات العمومیة الإداریة، و هي فئة المؤسسات العمومیة ذات الطابع الصناعي و التجاري (EPIC ) . و من هنا أصبح یوجد نظامین متمایزین للمؤسسة العمومیة، فئة المؤسسات العمومیة الإداریة التي تسیر المرافق العمومیة الإداریة ،و فئة المؤسسات العمومیة الصناعیة و التجاریة التي تسیر المرافق العمومیة الصناعیة و التجاریة.

و هو ما دفع بعض رجال القانون إلى الإقرار بوجود ما عرف بـ: "أزمة المؤسسة العمومیة". و ذلك بسبب عدم التجانس في مفهوم المؤسسة العمومیة، في ظل وجود نظام قانوني ثاني للمؤسسة العمومیة (EPIC ) یخضع للقانون الخاص1. و هو ما عرف كذلكبـ: "أزمة المرفق العمومي". مما أدى ببعض رجال القانون إلى استبعاد فكرة المرفق العمومي كأساس لتطبیق القانون الإداري. إلا أنه سرعان ما تم العدول عن هذه الفكرة، و اعتبار أن فكرة المؤسسة العمومیة الإداریة (EPA) كأسلوب لتسییر لمرفق العمومي و كأساس لتطبیق القانون الإداري لا یمكن الاستغناء عنها، إذ تبقى دائما أسلوبا مفضلا لتسییر المرافق العمومیة الإداریة، و تخضع للقانون الإداري. و هذا التنوع في أنظمة المؤسسة العمومیة ،ما هو إلا تطور لها، یتلائم مع التطوارت الحاصلة في المرافق العمومیة.

إن المؤسسة العمومیة الإداریة EPA)) أو ما یعرف بـ: "المفهوم الأصلي للمؤسسة" العمومیة، یبقى دائما یلعب أهمیة كبیرة في تسییر المرفق العمومي الإداري، لا یمكن الاستغناء عنه، رغم التحولات الجدیدة في تسییر المرافق العمومیة، لا سیما بعد ظهور ظاهرة ما یعرف بـ "العولمة"، التي یقول بعض رجال القانون عنها أنها قلصت من مجال القانون الإداري، و فرضت على الدول إتباع أسلوب التسییر الخاص لإدارة المرافق العمومیة. مما أدى حسبهم إلى اضمحلال أسلوب المؤسسة العمومیة كأداة لتسییر المرافق العمومیة. إن هذا التصور یراه بعض رجال القانون، أنه صناعة أملتها بعض الإیدیولوجیات الراسمالیة في ظل العولمة من أجل تكریس فكرة خوصصة الدولة، و جعل القطاع الخاص یهین على كل دوالیب الدولة2.

و في هذا السیاق، یرى بعض رجال القانون أن المؤسسة العمومیة الإداریة EPA))، هي أسلوب لصیق بالدولة، فالدولة لا یمكنها الاستغناء عن المؤسسة العمومیة الإداریة. لأنها تتماشى دائما مع تحقیق أهدافها، و هي ضرورة اجتماعیة في أي مجتمع؛ فالكثیر من حاجیات الأفراد، لا یمكن تحقیقها إلا بالمؤسسة العمومیة الإداریة، لاسیما ما تعلق بالمرافق العمومیة القاعدیة التي تتمثل في التعلیم، الصحة، الریاضة، التربیة، الثقافة، و غیرها.

فالمرافق العمومیة القاعدیة هي مرافق الدولة التي لا یمكن تسییرها إلا بأسلوب المؤسسة العمومیة، لاسیما المؤسسة العمومیة الإداریة بمختلف أصنافها. و هذا لا یمنع من وجود أسالیب مجاورة لأسلوب المؤسسة العمومیة، كالأسالیب المدرجة ضمن أشكال تفویض المرفق العمومي. إلا أن استعمال أسلوب المؤسسة العمومیة الإداریة یبقى دائما هو المفضل لدى الدولة، بسبب الخصوصیات التي یتمتع بها.

و في هذا الصدد، تكتسي المؤسسات العمومیة الإداریة سواء في بلادنا، أو في الأنظمة المقارنة أهمیة بالغة، لأنها تعتبر من أهم الأسالیب لتسییر المرافق العمومیة في الدولة.
و تتمیز بخصائص و مواصفات تجعلها أكثر الأسالیب استعمالا من طرف الدولة.
و مفادها هو أن تقوم الدولة بإنشاء هیئة تتمتع بالشخصیة المعنویة و الاستقلال المالي و الإداري ، و تعهد له تسییر مرفق عام . وتعرف المؤسسة العمومیة الإداریة بأنها:
"شخص معنوي عام یتمتع بالشخصیة المعنویة و الاستقلال الإداري و المالي بنشاط متخصص ، یكلف بتسییر مرفق عمومي إداري فالتخصص هو السمة الممیزة للمؤسسة العمومیة و تكرس المؤسسة العمومیة صورة من صور اللامركزیة المرفقیة أو المصلحیة".

إن أسلوب المؤسسة العمومیة الإداریة في الجزائر هو أسلوب موروث منذ الاستعمار الفرنسي، حیث كان استعماله بكثرة في فترة الاستعمار، خصوصا في تسییر المرافق العمومیة القاعدیة كمرافق الصحة و التعلیم و الثقافة و غیرها. و استمر استعماله في الجزائر بعد الاستقلال في سنة 1962. و المفارقة أنه، و رغم أن المؤسسة العمومیة الإداریة EPA)) هي وسیلة مأخوذة من المحیط اللیبرالي لتسییر المرافق العمومیة الإداریة، إلا أنه و لأهمیتها، فإن استعمالها لم ینقطع بعد الاستقلال، خصوصا مع انتهاج الجزائر للنظام الاشتراكي كخیار إیدیولوجي سیاسي و اقتصادي و اجتماعي و ثقافي الذي كان یتعارض مع النهج اللیبرالي التي كانت المؤسسة العمومیة الإداریة أداته المفضلة.
لقد كانت المؤسسة العمومیة الإداریة EPA)) ، في ظل النظام الاشتراكي التي كانت تنتهجة الجزائر أسلوب یستعمل بصفة مستمرة، رغم انتشار الأسالیب الاشتراكیة في التسییرالتي كانت آنذاك، كالشركة الوطنیة و المؤسسة الاشتراكیة ، و غیرها. و لكن ما كان یلاحظ في المؤسسة العمومیة الإداریة آنذاك، هو غیاب الإطار القانوني الذي یكفلها. و في هذا السیاق، لم تهتم الدساتیر بفكرة المؤسسة العمومیة الإداریة، سواء تعلق الأمر بدستور الجزائر1 1963، أو دستور الجزائر2 1976، و لا حتى النصوص القانونیة، بالمقارنة مع النصوص القانونیة الكثیرة التي اهتمت بالمؤسسات الاشتراكیة المختلفة.
إن الإصلاحات التي قامت بها الجزائر في فترة الثمانینات أدت إلى صدور القانون رقم 88-01، السالف الذكر ، الذي أعطى نفسا قویا للمؤسسة العمومیة الإداریة، و مكانة هامة في النظام الإداري الجزائري، رغم التأطیر المحتشم لها في ظل هذا القانون. و بعد دستور الجزائر3 لسنة 1989، و الانتقال من محیط اشتراكي إلى محیط لیبرالي، انتعشت المؤسسة العمومیة الإداریة EPA)) ، أكثر فأكثر ، وأصبحت أكثرا استعمالا.

و بعد الأزمة التي حلت بالبلاد في المطلع العشریة السابقة ، ظهر ما یعرف بـ:
"نظام خوصصة المؤسسات العمومیة" . حیث عرفت المؤسسة العمومیة الإداریة انكماشا شيء ما، و ذلك بسبب الأزمة الأمنیة و السیاسیة و الاقتصادیة و الاجتماعیة التي مرت بها الجزائر. مما أدى لنقص إعانات الدولة علیها ، في ظل إرادة الدولة التي اتجهت إلى تقلیص النفقات العمومیة.

و مع بدایة القرن الواحد و العشرون، تغی رت الظروف السیاسیة و الاقتصادیة للجزائر إلى الأحسن، و تحسنت وضعیتها المالیة. و ظهرت عدة برامج تنمویة، تستهدف تحقیق التنمیة الشاملة في جمیع المیادین، مما تطلب إنشاء العدید من المؤسسات العمومیة، و هو مازاد في انتعاش المؤسسة العمومیة الإداریة EPA)) ، أفضل من أي وقت مضى ،و هو ما ترتب عنه زیادة معتبرة في حجم الإنفاق العمومي. على اعتبار أن المؤسسة العمومیة تعتمد میزانیتها على الإعانات العمومیة للدولة من أجل تحقیق الخدمة العمومیة.

إن الدعم الكبیر الذي تلقاه المؤسسة العمومیة من الدولة. جعل هذه الأخیرة، تعید النظر في علاقاتها معها، و تبحث في تعزیز و تكثیف الأطر الرقابیة التي تكفل مراقبة الدولة للمؤسسة العمومیة الإداریة، من أجل ترشید الدعم التي تستفید منه المؤسسة العمومیة الإداریة، لصالح تحقیق الجودة في تسییر المرفق العمومي. بما یتناسب مع متطلبات المواطن في شتى المجالات، لاسیما الأساسیة.

خصوصا في ظل الارتفاع الهائل لعدد المؤسسات العمومیة الموجودة حالیا و الذي بلغ سنة 2012 حوالي 7000 مؤسسة عمومیة وطنیة بكل أنواعها في جمیع القطاعات في الدولة ( دون حساب المؤسسات العمومیة المحلیة)1، 90% منها مؤسسات عمومیة إداریة وطنیة . ما یستنتج منه أن المؤسسات العمومیة الإداریة الوطنیة أصبحت هي الأداة المفضلة لتسییر المرافق العمومیة في الجزائر بفضل الخصائص و الممیزات التي تتمتع بها.

كخاصیة المرونة التي تتمتع بها، و كذا صفة التخصص. و بذلك فإن الرقابة على المؤسسات العمومیة أصبحت حتمیة ضروریة من أجل ضمان الوصول إلى الهدف المنشود منها، وهو التسییر الرشید للمرفق العام و تلبیة متطلبات المواطن . غیر أن هذه الرقابة لابد من أن تتكیف و استقلالیة المؤسسات العمومیة، و إلا تصبح تشكل عائقا على المؤسسة العمومیة. و هنا تبرز أهمیة الموضوع.

و هذا ما یدفعنا في البحث عن مسألة هامة جدا و هي أسس و طبیعة العلاقة الرقابیة بین الدولة و المؤسسات العمومیة الإداریة في القانون الإداري، التي تعتبر أمر صعب و معقد. سواء تعلق الأمر من الناحیة التشریعیة ، أو من ناحیة الفقه القانوني أو القضاء ،و ذلكراجع لعدم وجود نص قانوني نموذجي موحد و متجانس یحكم المؤسسات العمومیة،. رغم المحاولات التي قام بها المشرع في ذلك من جهة ، و اختلاف رجال القانون وتذبذب قراارت القضاء الإداري في ترسیخ هذه العلاقة، من جهة أخرى.
و بالتالي، هذا هو الدافع وارء اختیار هذا الموضوع ، لاسیما و أن هذا الموضوع غیر معالج سابقا ، خصوصا في ظل الإصلاحات التي قامت بها الجزائر في الآونة الأخیرة من أجل ترشید النفقات العمومیة . و إذا تمت معالجته، فإن تلك المعالجة تكون جزئیة أو ناقصة. بالإضافة إلى قلة الدراسات المتخصصة و المراجع التي تتعلق بموضوع رقابة الدولة على المؤسسات العمومیة في المنظومة القانونیة الجزائریة، و هو ما یفسح المجال لدراسته.

كما یرجع أسباب اختیاره للأهمیة الكبیرة لهذا الموضوع من الجانب الموضوعي في ظل الإشكالیات التي یطرحها، لاسیما نتیجة عدم وجود نظام قانوني نموذجي موحد ومتجانس یحكم المؤسسة العمومیة الإداریة ، عكس الجماعات الإقلیمیة للدولة ( قانون البلدیة ، قانون الولایة). كما أن تشابه الكثیر من الأحكام و القواعد القانونیة المطبقة على الإدارات العمومیة مع الأحكام و القواعد القانونیة المطبقة على المؤسسات العمومیة الإداریةـ بما في ذلك، تلك الأحكام المتعلقة بالنظام الرقابي، و التي لا تحترم خصوصیات المؤسسة العمومیة الإداریة1، زاد من صعوبة الموضوع ، مما جعل الباحثین بین تصورین متناقضین و متوازنین.

فمن جهة، إن أسلوب المؤسسة العمومیة الإداریة كنمط لتسییر المرفق العمومي یؤدي إلى منح الاستقلال الإداري و المالي إلى المؤسسة العمومیة، مما یجعلها تتمتع بحریة في التسییر على اعتبار أن المؤسسة العمومیة تعد صورة من صور اللامركزیة المرفقیة ،و هذا ما یستوجب إعطاء حریة أكبر للمؤسسة العمومیة في القیام بالأعمال الإداریة المختلفة لممارسة نشاطاتها، من أجل تحقیق الغرض الذي وجدت من أجله. و هو تحقیق غرض الخدمة العمومیة، أي تلبیة حاجات المواطنین. لذلك، فلابد للدولة أن توفر هذه الاستقلالیة للمؤسسات العمومیة الإداریة من أجل تحقیق غرضها .

و من جهة أخرى، فإن الم ؤسسات العمومیة الإداریة تعتمد على إعانات كبیرة من الدولة من أجل تحقیق غرضها، و هو ما یكبد الدولة نفقات عمومیة كبیرة، دون تحقیق الخدمة العمومیة المطلوبة في بعض الأحیان. و بالتالي، فإن ذلك یستوجب على الدولة توفیر رقابة فعالة في المجال الإداري من جهة، و في المجال المالي المتعلق بهذه المؤسسات، و مراقبة التسییر الإداري و المالي من جهة أخرى. و هذا كله من أجل حمایة مبدأ المشروعیة، تحقیق جودة الخدمة العمومیة و ترشید النفقات العامة و ضمان الحفاظ على المال العام، تحقیقا للمصلحة العامة.

و من هنا نقع ما بین نقضین ، حول ماهیة طبیعة علاقة الدولة بالمؤسسة العمومیة الإداریة من أجل تحقیق الهدف الذي وجدت من أجله. أي كیف تحقق المؤسسة العمومیة غرضها؟ هل یكون ذلك من خلال فرض الدولة لرقابة صارمة علیها، أم من خلال إعطاء الحریة لها و الاستقلالیة الكاملة لممارسة نشاطاتها؟ هذا ما یؤدي بنا إلى إشكالیة هامة سنحاول الإجابة علیها ، على ضوء دراسة طبیعة هذه الرقابة التي تفرضها الدولة على المؤسسات العمومیة الإداریة في النظام القانوني الجزائري.

- مجال و حدود الدارسة:

تجب الملاحظة، أن موضوع رقابة الدولة على المؤسسات العمومیة واسع جدا، على اعتبار وجود أنواع كثیرة من المؤسسات العمومیة و أنواع كثیرة من أشكال الرقابة. لذلك لابد من تحدید مجال دراستنا : و الذي یقتصر من حیث الجانب الموضوعي من منظور القانون الإداري و المالي على الرقابة على المؤسسات العمومیة الإداریة الوطنیة باختلاف أصنافها. و نخص بالذكر المؤسسات العمومیة ذات الطابع الإداري (EPA)، و المؤسسات العمومیة ذات الطابع العلمي و الثقافي و المهني E.P.S.C.P) ) التي تستعمل لتسییر المرافق العمومیة1. تجب الملاحظة، أن المؤسسات العمومیة الإداریة، تأخذ عدة تسمیات في القانون الجزائري، لها نفس المدلول، نذكر منها: الدیوان L’office، الوكالة L’agence، المركـز Le centre، الصندوق La caisse، المعهد L’institut، و غیرها. كما سوف تنصب دراستنا كذلك، على دراسة أهم أنواع رقابة الدولة بالمفهوم الضیق للدولة، كما تمت الإشارة سابقا. و التي نقصد بها، لاسیما رقابة السلطة الإداریة المركزیة ،باعتبارها أنها أهم رقابة استنادا إلى مبدأ الارتباط، أي ارتباط المؤسسات العمومیة دائما بالسلطات الإداریة المركزیة في الدولة التي تخضع لها هذه المؤسسات. و التي تتمثل في الرقابة على نشاطها الذي یترجم الوسائل التي تستخدمها لممارسة هذا النشاط.

و هي بالدرجة الأولى الرقابة التي تخضع لها من الجانب الإداري، و كل الأجهزة الإداریة التي تتولى رقابتها، و كذلك الرقابة التي تخضع لها من الجانب المالي و كل الأجهزة المالیة التي تتولى رقابتها. و هو ما یتلائم مع دراستنا، و یحقق أهدافها . أما من حیث الجانب المكاني؛ فتقتصر دراستنا على الجزائر، مع الاعتماد في بعض الأحیان على بعض الأنظمة القانونیة المقارنة، لاسیما أن النظام القانوني الفرنسي. باعتباره أصل نشأة المؤسسة العمومیة، و رقابة الدولة.

ویخرج من نطاق دراستنا الرقابة على المؤسسات العمومیة ذات التسییر الخاص E.P.G.S) ) ، و المؤسسات العمومیة ذات الطابع العلمي و التكنولوجيE.P.S.T) ) و المؤسسات العمومیة ذات الطابع الصناعي التجاري(E.P.I.C ) ، و المؤسسات العمومیة المحلیة E.P.L)) ، و كذا المؤسسات العمومیة الاقتصادیة أو ما یعرف بـ:"المقاولات العمومیة الاقتصادیة" E.P.E) ). كون هذه المؤسسات تمتاز بنظام قانوني یختلف عن الأنظمة التي سوف تتم دراستها، و هو ما یتطلب معالجتها في رسائل أخرى . كما یخرج عنها رقابة المؤسسات العمومیة التي لا تستهدف تسییر المرافق العمومیة. كما یخرج على نطاق دراستنا كذلك، دراسة أنواع الرقابة الأخرى (البرلمانیة، القضائیة)، التي تعبر على رقابة الدولة بالمفهوم الواسع، و التي سبق توضیحها.

-الإشكالیة العامة للموضوع:

في ظل التحولات الحاصلة في النظام القانوني للمؤسسات العمومیة، وفي ظل توفر الآلیات القانونیة لممارسة الرقابة علیها من خلال الإنتاج التشریعي و التنظیمي المتضمن إنشاء أجهزة و هیئات رقابیة متخصصة . هل استطاعت الدولة الجزائریة وضع نظام رقابي متوازن یحكم المؤسسات العمومیة الإداریة، بما یضمن استقلالیتها و الحریة في تسییرها، من جهة ؟ و رقابة هادفة علیها، بما یضمن تحقیق غرض الخدمة العمومیة، و حمایة المال العام ،من جهة أخرى ؟

- المنهج المتبع في الدارسة:

تتطلب هذه الدراسة، الاعتماد على المقاربة القانونیة، التي تنسجم مع موضوع دراستنا باعتبار أننا ندرس موضوع رقابة الدولة على المؤسسات العمومیة من المنظور القانوني البحت دون غیره. مستعملین في ذلك، تحلیل النصوص القانونیة و مختلف الوثائق و التقاریر الصادرة من أجهزة المراقبة في الدولة، و أراء رجال القانون ( فقهاء القانون) مع الاعتماد في بعض الأحیان على القانون المقارن.

هذا ما حاولنا التطرق إلیه من خلال هذا البحث الذي یحمل عنوان:

"رقابة الدولة على المؤسسات العمومیة في الجزائر".

وللإحاطة بهذا الموضوع، فقد حاولنا تقسیم الفكرة الرئیسیة للبحث إلى بابین رئیسیین :

تضمن الباب الأول ،رقابة الدولة على المؤسسات العمومیة من الجانب الإداري.
أما الباب الثاني، فقد تضمن ،رقابة الدولة على المؤسسات العمومیة من الجانب المالي.   

---------------------------

قائمة  المراجع :

- دستور الج ازئر لسنة 1963 المؤرخ في 8 سبتمبر 1963 (ج ر، رقم 64 المؤرخة في 10 سبتمبر 1963، ص 887)
- دستور الج ازئر لسنة 1976 الصادر بموجب الأمر رقم 76-97، المؤرخ في 22 نوفمبر
1976 ، (ج ر، رقم 94، المؤرخة في 24 نوفمبر 1976، ص 1292) المعدل و المتمم بالقانون رقم 80-01 المؤرخ في 12 جانفي 1980 المتضمن التعدیل الدستوري ،( ج ر، رقم 10، لسنة 1980).
- دستور الج ازئر لسنة 1989، الصادر بموجب، المرسوم الرئاسي رقم 89-18 المؤرخ في
28 فیفري 1989، الذي یتعلق بـنشر نص التعدیل الموافق علیه في استفتاء 23 فیفري
1989، ( ج ر، رقم 9، المؤرخة في 1 مارس 1989، ص 234).
- دستور الج ازئر لسنة 1996، الصادر بموجب المرسوم الرئاسي رقم 96 -438 المؤرخ في
7 دیسمبر 1996 ( ج ر رقم 76 الم ؤرخة 8 دیسمبر 1996)؛ المعدل و المتمم، بالقانون رقم 02-03، المؤرخ في 10 أفریل 2002، (ج ر رقم 25 المؤرخة في 14 أفریل 2002)، و بالقانون رقم 08-19، المؤرخ في 15 نوفمبر 2008، ( ج ر رقم 63، المؤرخة في 16 نوفمبر 2008)، و بالقانون رقم 16-01 المؤرخ في 6 مارس 2016، الذي یتضمن التعدیل الدستوري 2016 ( ج ر، رقم 14، المؤرخة في 7 مارس 2016، ص 2)

تعليقات